رابطة قدماء القوى المسلحة اللبنانية
لم تتورَّع الحكومات اللبنانية المتعاقبة عن الادعاء أن معاشات التقاعد وتعويضات الصرف من الخدمة لموظفي القطاع العام، مدنيين وعسكريين، باتت تشكِّل عبئَا ثقيلاً على الخزينة اللبنانية، وأن واردات الدولة من المحسومات التقاعدية لا تُشكل سوى نسبة ضئيلة من المعاشات التقاعدية. وقد تمادى بعض المسؤولين مؤخرًا فصرَّحوا، ومن دون خجل، بأن المعاشات التقاعدية باتت تُشكل سببًا مهمًا وأساسيًا بين الأسباب التي أدّت إلى انهيار الوضع المالي والاقتصادي في لبنان.
أمر غريب حقًا. إن هذه الادعاءات جميعها ليست على خطأ فحسب، بل هي عكس الواقع والحقيقة تمامًا. فالحقيقة الحقيقة هي أن المعاشات التقاعدية تُكوَّن وتُدفع من المحسومات التقاعدية التي تُجمع من رواتب الموظفين لوحدهم من دون أن تُشارك الدولة بقرش واحد، لا في المحسومات التقاعدية ولا في دفع المعاش التقاعدي. بل وعلى العكس تمامًا، وكما سنبيّن لاحقًا، (الملحق الرقم 2) تستفيد وزارة المالية نتيجة وضع المحسومات التقاعدية في خزانتها، من ملايين بل مليارات الليرات اللبنانية، بعد تسلُّمها، بتشغيلها كما سمح لها بذلك القانون ضمنًا، ومن ثم تدفع قسمًا منها كمعاشات تقاعد، وتحتفظ لنفسها بالرصيد الباقي وهو ضخم للغاية.
الأرقام تُثبت ذلك، والأرقام لا تُخطئ، وخبراء المحاسبة يعرفون ذلك (الملحق الرقم1).
إذا أخذنا مثلاً موظفًا، فئة ثانية، أساس راتبه عند دخوله الوظيفة في الدرجة الأولى، وفق الجداول المرفقة بالقانون الرقم 46/2017، ثلاثة ملايين ليرة (3.000.000)، وأضفنا إليه الزيادات القانونية التي تطرأ على راتبه لمدة 40 سنة، فإن راتبه في نهاية خدمته، أي بعد 40 سنة، يصبح ستة ملايين ومئة وثلاثين ألفًا (6.130.000 ل.ل). وبذلك يُصبح معاشه التقاعدي:
6.130.000 x 85% = 5.210.500ل.ل
من ناحية أخرى، تكون المحسومات التقاعدية التي تُقتطع من راتب هذا الموظف لمدة 40 سنة وكما نصت عليها قوانين التقاعد:
نصف راتب الشهر الأول من خدمته + 6% من راتبه شهريًا + القسط الشهري الأول من كل زيادة تطرأ على راتبه.
هذه المحسومات اذا ما جُمعت واستُثمرت في مصرف خاص مع تعهّد صاحبها بعدم سحب أي مبلغ منها طوال الـ 40 سنة، فإن فائدة تلك المحسومات لن تقلَّ في أسوأ الحالات عن 10%، وبذلك يُصبح مجموعها 1.284.015.492 ل.ل.
واذا ما أعطي هذا الموظف معاشًا تقاعديًا يُعادل 6% من هذا المبلغ يصبح معاشه /6.420.000 ل.ل/ بدلاً من /5.210.500 ل.ل/.
وإذا استمر دفع هذا المعاش التقاعدي كاملاً لمدة ثلاثين سنة من دون أن ينقص منه قرش واحد، كما تُحاول إنقاصه دائمًا معظم وزارات المالية المتعاقبة، فإن رصيد هذه المحسومات بعد دفع المعاش لمدة 30 سنة سيبلغ /4.106.105.383 ل.ل/.
نعم هذه الحقيقة وهذا الواقع يبيِّنان لنا بوضوح أن وزارة المالية تستفيد من موظَّف واحد فئة ثانية بعد وفاته وعدم وجود أي مستفيد من معاشه التقاعدي بعده، بمبلغ يساوي أكثر من 4 مليارات ليرة لبنانية، الأمر الذي يوضح لنا أسباب إصرار الدولة ووزارات المالية المتعاقبة على عدم التجاوب مع المشترع اللبناني بإنشاء الصندوق الخاص بالتقاعد.
إن أول قانون للتقاعد صدر بتاريخ 7 أيار 1929 وقد جاء في المادة 42 منه حرفيًا ما يلي:
“ان معاشات وتعويضات الصرف تدخل في موازنة الدولة إلى أن يتسنَّى للحكومة إيجاد صندوق مستقل للتقاعد، وليس للتصرُّف بها كغيرها التي تدخل في إيرادات الخزينة وتدخل أيضًا في إيرادات الموازنة كل العائدات التي تُحسم لحساب التقاعد”.
وقد كانت تلك المحسومات محدَّدة كما يلي:
- 7% من رواتب الموظفين.
- نصف المعاش الشهري الأول.
- كل زيادة تُضاف على الراتب في الشهر الأول.
منذ ذلك التاريخ أي منذ العام 1929 وحتى اليوم، صدرت أربعة مراسيم اشتراعية للتقاعد هي:
- المرسوم الاشتراعي الرقم 13 تاريخ 7/1/1953 ومادته 179.
- المرسوم الاشتراعي الرقم 14 تاريخ 7/1/1955 ومادته 199.
- المرسوم الاشتراعي الرقم113 تاريخ 12/6/1959 ومادته 62.
- وأخيرًا المرسوم الاشتراعي الرقم 47/83 ومادته 47 والمعمول به حاليًا.
سمحت هذه القوانين الخمسة جميعها بإدخال المحسومات التقاعدية إلى خزينة الدولة، كما جاء فيها بانتظار، أو ريثما، أو لإمكانية إنشاء الصندوق المستقل للتقاعد.
ومن قراءة هذه القوانين ودراستها بإمعان يتبيَّن ما يلي:
- إن نص وجوب إنشاء صندوق التقاعد قد تكرَّر خمس مرَّات. ولو لم يكن المشترع على قناعة تامّة بلزوم إنشائه لما نصَّ ذلك في جميع تلك القوانين.
- إن المحسومات التقاعدية التي تُحسم من رواتب الموظفين تُحسَم لحساب تقاعدهم، وبذلك تبقى ملكاً لهم كأمانة أو وديعة في خزينة الدولة، أو في أي مكان آخر كصندوق التقاعد مثلاً. إلا أن هذه الوديعة ليست كالوديعة التي يضعها أصحاب الرساميل في المصارف وتعطيهم الفائدة وتبقى ملكًا لهم، بل منها، أي من المحسومات التقاعدية، تدفع وزارة المالية للمتقاعدين، ما يقلُّ عن الفائدة المترتِّبة عليها، معاشاتهم التقاعدية. وفي النهاية، وبعد وفاة المتقاعد والمستفيدين من المعاش التقاعدي بعده، تستولي الوزارة لنفسها على ما تبقَّى من هذه المحسومات.
- عندما وجد المشترع في المراسيم الاشتراعية الثلاثة الأولى أنه ينجم عن هذه المحسومات وتشغيلها مبالغ ضخمة جاء المرسوم الاشتراعي الرابع الرقم 113 ليعدِّل المحسومات التقاعدية من 7% إلى 5% .
- بعد اصرار وزارات المالية المتعاقبة على عدم انشاء الصندوق المستقل للتقاعد بقانون جاء المرسوم الاشتراعي الرقم113 لينص على إمكان إنشاء الصندوق بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء.
- إن المحسومات من رواتب الموظفين خلال وجودهم في الخدمة هي التي تُكوِّن واردات الإنفاق على معاشات التقاعد بدليل أنه لم تُحدَّد في أي قانون من تلك القوانين أية واردات أو اشتراكات من جانب الدولة.
لهذه الأسباب والحقائق التي بيّنت جميعها أن متقاعدي القطاع العام كافة، من عسكريين ومدنيين، يطالبون الدولة بالتجاوب مع المشترع اللبناني وإنشاء الصندوق المستقل للتقاعد الذي طالبت به جميع قوانين التقاعد اللبنانية التي صدرت حتى اليوم فيرتاح المتقاعدون من الدولة وحساباتها.
وإلى أن يتحقَّق ذلك، وهو كما يظهر من الصعوبة بمكان نظرًا إلى الخسارة المادية التي ستطال وزارة المالية من جرَّاء عدم وضع المحسومات التقاعدية في خزينتها، يطالب المتقاعدون بما يلي:
- إلغاء المادة 43 من مشروع قانون الموازنة للعام 2018.
- إلغاء التقسيط على الزيادات التي منحها القانون الرقم 46/2017 في مادته 18 وبخاصة أنه تبيَّن أن هناك أموالاً كافية لذلك، وتطبيق هذا الإلغاء سهل للغاية.
- تأليف لجنة خاصة تضمّ مندوبين عن وزارة المالية، ومندوبين عن جميع المؤسسات الخاضعة لقانون التقاعد، وبشكل خاص مندوبين عن المتقاعدين، تعمل على درس هذا الموضوع بكل دقة ووضع قانون جديد يؤمن حقوق كل من المتقاعدين والدولة.
اللواء المتقاعد عثمان عثمان
بيروت في14/2/2018